في مشهدٍ يزيد من قتامة الكارثة الإنسانية المتصاعدة في قطاع غزة، كشفت تسريبات إسرائيلية عن إطلاق الحكومة الإسرائيلية خطة عسكرية سياسية تحت مسمى “عربات جدعون“، تتضمن مزيجًا من المجازر، التجويع، والهندسة الديموغرافية، في محاولة لإعادة تشكيل الواقع السكاني والجغرافي للقطاع.
وفيما يحيط العالم بصمته، يصف مراقبون هذه الخطة بأنها تصعيد خطير يفتح الباب أمام جريمة تهجير قسري جماعي، مستغلًا المجاعة كسلاح لإجبار السكان على مغادرة أراضيهم، في خطوة وصفتها منظمات حقوقية بأنها شكلٌ من أشكال الإبادة الجماعية.
ثلاث مراحل.. نحو “غزة الصغرى”
وفقًا لما كشفه تقرير موسّع للصحفي العسكري رون بن يشاي في صحيفة يديعوت أحرونوت، فإن “عربات جدعون” تتكون من ثلاث مراحل متتابعة، تهدف في مجملها إلى تفكيك بنية المقاومة في غزة، وفصلها عن الحاضنة الشعبية، وصولًا إلى إعادة رسم الخريطة الجغرافية والسكانية للقطاع.
المرحلة الأولى: الإعداد اللوجستي والنفسي
بدأت بالفعل، وتشمل إنشاء مراكز لوجستية لإدارة توزيع المساعدات الغذائية والدوائية، وتجهيز بيئة تدفع السكان نحو مناطق جنوب القطاع بين محوري “موراغ وفيلادلفيا”، وهي المنطقة التي يُراد تحويلها إلى “غزة المصغرة”.
المرحلة الثانية: التهجير بالقصف والخنق
تتضمن قصفًا جويًا وبريًا واسع النطاق، يهدف إلى إجبار السكان على النزوح نحو المناطق المحددة عبر رسائل ومنشورات تهديدية. تُنصَب نقاط تفتيش أمنية، تشرف عليها أجهزة الاستخبارات والجيش، لتصفية من تعتبرهم إسرائيل خطرًا أمنيًا.
المرحلة الثالثة: الاجتياح والتفكيك العسكري
مع تفريغ المناطق المستهدفة من السكان، تبدأ عمليات الاجتياح الميداني، وتدمير شامل للبنية العسكرية والمدنية التي ترى فيها إسرائيل خطرًا. تترافق هذه المرحلة مع نية واضحة للتمركز العسكري طويل الأمد.
“رافعات الضغط”: بين الجوع والإرهاب النفسي
تعتمد إسرائيل، وفقًا للتسريبات، على خمس “رافعات” لتحقيق أهدافها:
- الاحتلال المباشر للمناطق.
- فصل المدنيين عن المقاومة عبر “مصارف” أمنية.
- السيطرة على المساعدات الإنسانية لمنع وصولها إلى حماس.
- خلق فجوة بين السكان والمقاومة عبر الدعاية والحصار.
- الضغط الاستخباراتي والنفسي على قيادة حماس.
وتسعى إسرائيل من خلال هذه الأدوات إلى إرغام حماس على تقديم تنازلات، خصوصًا فيما يتعلق بملف الأسرى، بينما يعاني السكان من حصار مزدوج: عسكري وإنساني.
أبعاد التهجير: من الخطة إلى التصريحات
تتطابق تفاصيل الخطة مع تصريحات علنية صدرت عن مسؤولين في الحكومة الإسرائيلية. فقد دعا وزير المالية بتسلئيل سموتريتش إلى احتلال غزة لمدة 50 عامًا، وتهجير سكانها بشكل ممنهج، مشيرًا إلى أن “النصر يتحقق فقط عندما تُدمر غزة بالكامل، ويُحشر سكانها في الجنوب تمهيدًا لمغادرتهم إلى دول ثالثة”.
وبينما يرى وزير الجيش الإسرائيلي يسرائيل كاتس أن العملية تهدف إلى استعادة السيطرة الكاملة على القطاع، يعتبر محللون أن الخطاب السياسي الإسرائيلي لم يعد يخفي نوايا الترحيل القسري، بل بات يُصرَّح به علنًا، كجزء من إستراتيجية طويلة الأمد.
مجتمع دولي غائب.. والمجاعة كسلاح حرب
في ظل تفاقم الأزمة، حذّرت منظمات دولية أبرزها “أمنيستي” من أن الحصار الإسرائيلي المفروض على غزة يرقى إلى جريمة إبادة جماعية، خاصة مع استخدام التجويع كسلاحٍ حربي. وأكدت المنظمة في بيان لها أن منع دخول الغذاء والدواء وحرمان المدنيين من أبسط مقومات الحياة هو “عقوبة جماعية غير قانونية”.
لم تعد الحرب الإسرائيلية في غزة مجرد حملة عسكرية، بل تحولت إلى مشروع سياسي شامل يهدف إلى تغيير الجغرافيا والديموغرافيا، وفرض واقع جديد يقوم على إضعاف المقاومة، وخنق السكان، ودفعهم إلى الهجرة تحت ضغط القتل والجوع.
“عربات جدعون” ليست مجرد خطة، بل مرآةٌ تعكس منطقًا توسعيًا لا يتورع عن استخدام أبشع الوسائل من أجل فرض إرادة سياسية بالقوة، فيما يقف العالم على الهامش، منشغلًا بالبيانات، وغير قادر -أو غير راغب- في إيقاف آلة الموت المتقدمة على الأرض.